مقالات

ماذا بقي من شعارات الثورة التونسية؟

14 جانفي 2011 - 14 جانفي 2024

عبد الرحمان اللاحقة 
أستاذ محاضر بالمعهد العالي للتصرف بتونس       

في جانفي 2011 طغى شعار “شغل حرية كرامة وطنية” جميع المظاهرات والتحركات التي أدت الى إسقاط نظام بن علي، النظام الذي حكم البلاد لأكثر من 23 سنة. لقد كان من المؤمل أن تترجم هذه الشعارات غداة الثورة وفي خضم الانتقال الديمقراطي إلى سياسات وبرامج عمومية وخاصة الى إصلاحات مؤسساتية تستجيب لانتظارات عموم التونسيات والتونسيين.

 واليوم وبعد مرور 13 سنه على ثورة 2011 وسقوط نظام الاستبداد، ماذا تحقق وماذا تبقى من شعارات الشعب التونسي؟

في سنة 2011 وعند انتفاض التونسيات والتونسيين، لم تكن مؤشرات الاقتصاد الكلي بالسوء الذي يعتقده البعض، فالمالية العمومية كانت شبه متوازنة، بعجز ميزانيه لم يتجاوز 1% ونسبة تداين في حدود 40% من الناتج الداخلي الخام ونسبة بطالة شبيهة بالبلدان المجاورة أو في بعض الاحيان أقل. وكان العقد الاجتماعي الضمني بين الاتحاد العام التونسي للشغل والنظام القائم والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، يضمن زيادات دورية (غير مجزية في عديد الأحيان) في أجور من كان له حظّ الحصول على وظيفة في القطاع العام أو القطاع الخاص، مقابل ضمان الاستقرار الوظيفي وحماية القطاع الخاص من المنافسة الداخلية والخارجية حتى إن كان ذلك على حساب رفاهية المستهلك.

فالأسباب العميقة لانتفاضة التونسيات والتونسيين كانت ضدّ تفاقم الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وتفشّي الفساد والشعور بالإقصاء وعدم تكافؤ النفاذ إلى الفرص الاقتصادية والاحساس المتزايد خاصة من قبل فئة الشباب بإمكانية تحقيق الأحسن فعندما يتشدّق النظام القائم بتحقيق نسب نمو بمعدل 4 في المائة سنويا في بداية الألفية كانت الاقتصاديات المشابه تحقّق معدّل 7% نسبة نمو و32 % نسبة استثمار مقابل معدّل لا يتجاوز 24% في تونس. في المحصلة لم يكن الأداء الاقتصادي سيّئا، حسب المقاييس الكمّية المتعارف عليها، بل كان أقلّ من التوقّعات والامكانيات وطموحات الشعب التونسي وهو ما يفسّر التحالف الموضوعي بين الفئات المهمّشة والطبقة المتوسطة من الشباب والكهول لقيادة ثورة 2011 توقا إلى الحرية وإلى حياة أفضل.

واختزل شعار الحرية بعدا أساسيا لرفاهية الفرد باعتباره المكمّل الأساسي للمزايا والمداخيل المادية التي يوفّرها العمل اللاّئق والذي تجسّده المفردة الأولى لشعار الثورة (شغل). فالحرّية الفردية والجماعية هي الضّامن الأساسي لاستقلالية الفرد والتحكّم في مسار حياته واحترام حقوقه الكونية وعلى رأسها حرّية التعبير والفكر وحرّية الاختيار. فحياة الإنسان تبقى بلا معنى وجودي في غياب الحرية الضّامنة لقدرته على اتّخاذ قرارات مستقلّة وفقا لقيمه وقناعاته الشخصية حتّى إن ضمنت له الدولة الدّخل المادّي المرتفع.

فالدّخل المادّي يفقد الكثير من قيمته ومعناه وفوائده في غياب الحرية فلا معنى وجودي لحياة الفرد وآلاف الدنانير التي يجنيها إن لم تكن له القدرة على صرفها وفق قناعاته وأولوياته كما أن الدّخل المادي يفقد فائدته في غياب النّفاذ إلى الخدمات الأساسية من صحّة وتعليم وغيرها. 

وإلى جانب هذه الاعتبارات، تعدّ الحرية أحد أعمدة النموّ الاقتصادي فالمجتمعات الحرّة تتميّز بالاستقرار المؤسّساتي وبسلطة قضائية مستقلّة وفعّالة وهو ما من شأنه أن يحمي حقّ الملكية ويشجّع الاستثمار والمبادرة الفردية. كما تساهم حرية التفكير والتجربة والابتكار في النهوض بالبحث العلمي والتطوير وبالتالي تدفع بالنمو الاقتصادي.

وفيما يتعلّق بالسلوك الفردي للفاعلين الاقتصاديين من عمّال وأصحاب عمل، فمن شأن ضمان حرّية المبادرة وحرّية العمل والحقّ النقابي تكريس ثقة الأفراد في المؤسّسات والرّفع من إنتاجية وسائل الإنتاج والتخفيض من عدم اليقين الاقتصادي وزيادة الثقة في المستقبل وبالتالي زيادة الاستثمار والنمو الاقتصادي.

ولا أحد ينكر أنّ غداة الثورة كانت هناك إرادة شعبية ونيّة طيبة من عدد من الأطراف السياسية والمجتمع المدني وعلى رأسهم الاتحاد العام التونسي للشغل للإصلاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية، كما شهدت تونس محاولات لتركيز عديد المؤسّسات الدستورية التعديلية واصلاح السلطة القضائية، غير أنّ هذه الجهود باءت بالفشل أو أنتجت مؤسّسات غير مكتملة وغير ناجعة. وللتذكير فقد نجحت تونس في إبرام العقد الاجتماعي في 14 جانفي 2013 بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وهي في رأيي من أهمّ الوثائق التي تمّت صياغتها بعد الثورة على هناتها ونقائصها وكان من الممكن أن تمثّل نقطة أو قاعده انطلاق حقيقيه للإصلاح المؤسّساتي وترسيخ الحرّيات الاقتصادية والاجتماعية.

غير أنّ هذه المجهودات قد شهدت انتكاسة أولى بعد انتخابات سنه 2014 بتحالف الإسلام السياسي مع منظومة ما قبل الثورة وتعثّر الزّخم الثوري حيث تلاشت إرادة الإصلاح لعدّة اعتبارات لا يتّسع مجال هذا المقال لشرحها المستفيض وهو ما ساعد على بروز التيارات الشعبوية والأحزاب “الهووية” وبعض الأطراف الانتهازية في انتخابات سنه 2019 والتي همشت أولويّات الإصلاح وتناست شعارات الثورة.

المحصلة الاقتصادية الأولى لهذه الفترة كانت تراجع الحريات الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز سيطرة العائلات على الاقتصاد الوطني والذي يجسّده تطوّر مؤشر هيرفندال هيرشمان ب 17 نقطة مئوية بين سنتي 2010 و2020 وهو مؤشّر يستخدَم لتحديد القدرة التنافسية للسّوق وسيطرة الشركات النافذة على الحياة الاقتصادية. وبالتّوازي لم يتجاوز النموّ الاقتصادي 1,7% كمعدّل سنوي للفترة 2010-2019 وتدهورت مؤشّرات النّفاذ إلى الصحّة والتعليم والنقل وفشلت السياسات العمومية في التقليص من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. والجانب الآخر من اخفاقات هذه المرحلة يتمثّل في الفشل في تأمين العمل اللائق وتخفيض نسب البطالة التي استقرّت في نفس مستويات سنه 2010 في تناف تامّ مع أحد شعارات الثورة.

وفي خضم هذه السلسلة من الاخفاقات فقد أضاعت تونس العديد من الفرص للقيام بعدّة إصلاحات قطاعية على غرار الضّمان الاجتماعي وأنظمة التقاعد وخاصّة في قطاع التعليم والذي فشلت عملية إطلاق إصلاحه في سنه 2017 لعدّة أسباب انتصرت فيها المصالح الحزبية والاعتبارات الذاتية لعدد من الأطراف على المصلحة الوطنية، وقد كانت الخسارة مضاعفة إذ ضربت صورة الاتحاد العام التونسي للشغل لدى الرأي العام من جهة وأضاعت فرصة إصلاح مهم كان ولا يزال من أولويات المجموعة الوطنية. وفي الحقيقة فإنّ الفرص المهدورة خلال الفترة 2011-2019 عديدة ومتعدّدة، ولا يتّسع هنا المجال لسردها وتحديد أسباب إخفاقاتها.

في منتصف 2021 شهدت شعارات الثورة انتكاستها الثانية بعد اسقاط مجلس النواب والحكومة وسيطرة الرئيس قيس سعيد على كلّ أدوات الحكم وسقطت شعارات الثورة عن أولى الاهتمامات وتمّ تقديم إعادة الترتيبات السياسية على حساب الاولويات الاقتصادية والاجتماعية. وتعيش تونس منذ منتصف 2021 الى حد اليوم حالة من الجمود التام على مستوى الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتراجع صريح لمنسوب الحريات الفردية التي تمثّل أحد أهمّ أبعاد الرفاه الفردي كما أسلفنا الذّكر سابقا.

وحتّى لو كان من الصعب إجراء تقييم علمي وبعقل بارد للأداء الاقتصادي خلال الفترة القصيرة من حكم قيس سعيد وتحميل المسؤوليات إلى مختلف الأطراف المتداخلة خاصّة بعد أزمة الكوفيد والحرب الروسية الأوكرانية، فلا شيء يبشّر بالخير للفترة المقبلة، لا سيما في ظل غياب رؤية واضحة ومكتوبة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الذي يجب اعتماده.

والأخطر في هذا السياق، الذي تختفي فيه شعارات الثورة أو التي تردّدها من حين إلى آخر التيارات الشعبوية دون قناعة كبيرة، التراجع الخطير لدور المنظّمات الوطنية الضامنة للإنجازات على صعيد الحريات الفردية خلال الفترة 2011-2019. 

لهذا التراجع في الدور الوطني للمنظمات عدّة تفسيرات، والتي لا تنطبق على الجميع، ولكن يكمن البعض منها في:

(1) الانتهازية الفردية أو الجمعية أو المهنية،

(2) تغليب الانتماء الحزبي على الانتماء النقابي،

(3) غياب أو تغييب الكفاءات لقيادة هذه المنظمات.

إنّ الأمر الأكثر إلحاحا بالنسبة لجميع المنظمات الوطنية هو الإخلاص لأدوارها التاريخية ولعب دورها كأطراف مؤثّرة في الخيارات الوطنية والدفاع بصوت عال عن الحرّيات الأساسية للتونسيين، إذ يشكّل هذا الموقف أهمّية حياتية بالنسبة لهذه المنظّمات، فإذا خفت صوتها في هذه المرحلة فإنهّا تجازف بفقدانه طويلا في المستقبل.

أخيرا، يجب أن يقوم التقييم الموضوعي للفترات المختلفة التي نمر بها على مقارنات واضحة ودقيقة، وليست على أسئلة مغلوطة. فعلى سبيل المثال لو وضعنا صور زين العابدين بن علي وراشد الغنوشي والباجي قايد السبسي وقيس سعيد أمام مواطن عادي، فمن المحتمل أن يميل إلى مقارنة سماتهم الشخصية، وربما ينسى طرح السؤال الصحيح “ما الذي تغيّر في حياتي اليومية خلال فترات حكمهم على اختلاف مددها؟”

قد تختلف حسب المقاربة التي يعتمدها. فما أحوجنا في تونس أن نتعلّم طرح الاسئلة المهمّة!

Skip to content