مقالات

مازلنا في حاجة إلى مشروع يعيدنا إلى مربع المواطنة لا أن يحيلنا إلى جمهور

في ذكرى ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي

نصر الدين ساسي
صحفي

تمرّ اليوم ثلاثة عشرة سنة عن ذكرى الثورة 17 ديسمبر  – 14  جانفي هذا اليوم الذي تكثّفت فيه الشعارات وتلخّصت فيه المطالب تحت عنوان كبير جامع “شغل حرية كرامة وطنية” هذا المطلب الرئيس والشعار المركزي بلا شكّ كان عاكسا لانتظارات عموم التونسيات والتونسيين من الفئات التي عانت لعقود من البطالة والتهميش وانسداد الآفاق. ورغم مرور أكثر من عقد من الزمن إلاّ أنّ تلك المطالب ماتزال عالقة والانتظارات قائمة، بل قد شهدت طوال فترات الانتقال الديمقراطي انتكاسات وتراجعات لافتة مرتبطة بشكل وثيق بالنظام الحاكم والطبقة السياسية التي عاشت بهذا الشعار أكثر من مردّديه بل هي افتكّته في محطّات وطوّعته إمّا لتغذية أجنداتها الحزبية أو لبثّ التفرقة والتقسيم وبناء الولاءات والتحالفات. اليوم بعد عشرية ونيف مايزال هذا الشعار قائما لكن فقط لدى الحكومات التي ماتزال تؤمن بل هي مقتنعة بمواصلة الاستثمار في الشعارات دون الإيفاء بالاستحقاقات. 

التشغيل من مطلب إلى عبء 

 لم يتمّ تفعيل هذا المطلب بالشكل المرجو حيث لم تتراجع نسب البطالة بل واصلت منحاها التصاعدي منذ الثورة من نسبة 13 % سنة 2010 إلى نسبة 16 % حاليا وذلك في ارتباط وثيق مع تراجع نوايا الاستثمار بالنظر الى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي يعتبر من العوامل المعرقلة لدفع الاستثمار وكذلك ضعف الديبلوماسية الاقتصادية وبطْء الإصلاحات الاقتصادية اللاّزمة والعاجلة خصوصا لمؤسّسات القطاع العام التي كانت إلى حدّ غير بعيد واحدة من بين أبرز أحواض التشغيل في البلاد التونسية منذ فترة السبعينات والتي لم تحض إلى حدّ الآن بمخطّط إنقاذ واضح يعيد توازنها ويرفع من قدراتها في دفع التشغيل والتنمية بل على العكس تماما فرضت ضغوطات الميزانية غلق باب الانتدابات في القطاع العام بالتوازي مع خفض التمويلات المرصودة لتطوير هذه المؤسّسات.

ومن المعلوم أيضا أنّ مناخ الاستثمار يتأثّر بشكل مباشر بمستويات الديمقراطية وبمنسوب الحريّات العامّة والفردية بالبلاد حيث أنّ الوضع الحالي المتّسم بتنامي المحاكمات والإيقافات قد لا تشجّع رأس المال الدولي أو المحلي على المغامرة بالاستثمار وذلك فضلا عن غياب الإرادة السياسية والجرأة في معالجة ملفات الإصلاح الجبائي على غرار التخلّي عن النظام التقديري وفرض ضريبة على الثروات وتجريم التهرّب الجبائي والعمل على مراجعة منظومة الدعم بتوجيهه نحو مستحقّيه، هذه الإجراءات مجتمعة بإمكانها تحسين وضع المؤسّسات العمومية وتوفير التمويلات الإضافية لدفع التشغيليّة.

على صعيد آخر ما زال سوق الشغل في تونس بعيدا عن الدرس والمتابعة سواء من جهة تناغم مخرجات منظومة التربية والتعليم والتكوين المهني مع متطلّبات سوق الشغل ومقتضياته الجديدة أو كذلك من جهة تأخّر برامج الإصلاح التربوي وتعثّرها خلال السنوات الماضية وعدم التعاطي مع ضرورة الإصلاح بالقدر الكافي من الجدّية والحرص، كذلك ماتزال الحكومة غير مهتمّة بالشكل الكافي بتحدّي مستقبل العمل حيث لم تبادر الحكومة إلى طرح هذا الملفّ على طاولة التفاوض مع الأطراف الاجتماعية لإعداد الخطط والبرامج الكفيلة بالتعاطي مع المتغيّرات الجوهرية التي سيشهدها سوق العمل خلال السنوات القليلة القادمة في ظلّ التطوّرات التكنولوجية المتسارعة والذكاء الاصطناعي الذيْن يهدّدان سوق الشغل بشكل جدّي. 

معارك الحقوق والحريات بين ضرورة التعزيز واتجاهات التضييق

الحرّية هي أمّ المعارك التي قادت الاحتجاجات ما بين 17 ديسمبر و 14 جانفي ترجمها شعار مركزي وهو “خبز وماء وبن علي لا ” مسألة الحرية إذن كانت في قلب المطالب الشعبية والجماهيرية بعد سنوات من القمع والتضييق والملاحقات ودولة البوليس، هذا المطلب ولئن برز منه جانب بعد الثورة يتمثّل خصوصا في انتعاش ملحوظ لحرّية التعبير عبر تنوّع المنابر الإعلامية وتراجع سلطة الدولة وسيطرتها المطلقة على المشهد الإعلامي ومضامينه لكن هذا الوضع الإيجابي تمّ لاحقا توجيهه من طرف عديد اللوبيات والمكوّنات والأحزاب الحاكمة نحو ضرب الإعلاميين في محاولة لتحييدهم وتقزيم دورهام المهني والمجتمعي من خلال ذلك الشعار الفضفاض “إعلام العار” وذلك بالتوازي مع اتجاه هذه المكوّنات واللوبيات إلى تكوين فرق مختصّة في صناعة المضامين الموجّهة للتّأثير في الجمهور العريض عبر وسائل التواصل الإجتماعي  في ما عرف بظاهرة الذباب الأزرق أو الأصفر وقد خلق هذا الوضع ارتباكا كبيرا وأثار جدلا خصوصا مع توجيهه لتصفية الحسابات السياسية وتشويه الخصوم سواء كانوا أحزابا سياسية أو منظّمات وطنية. هذا المناخ والمشهد الإعلامي الجديد ضرب حرّية الرأي والتعبير بما أنّه ضرب الطرف المهني المخوّل لنقل الأخبار بموضوعية وحرفية وفتح المجال لوسطاء جدد مع الرأي العام، وسطاء غير محايدين ومنخرطين في أجندات سياسية وحزبية.

هذه الحرية ورغم رحيل النظام الديكتاتوري القوي إلاّ أنّها ظلّت هشّة اعترضتها عديد الهزات والانتكاسات سواء في فترة حكم الترويكا والنهضة ببروز اتّجاهات للسيطرة على المرفق القضائي وإقحامه في صراعات تصفية الخصوم وسجنهم بقضايا كيدية وبعث أجهزة موازية حتى في الأمن. لكن ورغم رحيل النهضة وتوابعها ودخول البلاد مرحلة سياسية جديدة لما بعد 25 جويلية فإنّ الحرّيات لم تنتعش بالشكل المنتظر بل هي تتعرّض للتضييقات مجدّدا بعد إقرار المنشور عدد 54 الهادف إلى التوقّي من الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وزجرها وتسجيل عديد القضايا في حقّ الصحفيين والإعلاميين بإحالتهم على معنى فصول هذا المنشور وخاصّة الفصل 24 وقد تحرّكت المنظّمات الوطنية من الاتحاد  العام التونسي للشغل والجامعة العامة للإعلام والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين للمطالبة بجعل الفصل 24 فصلا مهجورا والدعوة إلى عدم اللجوء إلى التضييق على هامش حرّية العمل الصحفي. 

وعلى صعيد آخر يعتبر اللجوء المفرط والآلي لإجراءات الاحتفاظ وسلب الحرّية المؤقّت في عديد القضايا ضدّ الإعلاميين والنقابيين غير مقبول خصوصا أنّ النسبة الأكبر من هذه الإيقافات انتهت دون إدانات وهذا في حدّ ذاته تهديد وجب مراجعته وإيقافه. 

وفي الجانب الاجتماعي تشهد الحقوق والحريات النقابية ضغوطا غير مسبوقة انطلقت بإصدار المرسومين عدد 20 و 21 الذين اعتبرتهما المركزية النقابية كوابح للتفاوض وضغوط إضافية على الحوار الاجتماعي زد على ذلك التراجعات المتزايدة عن تطبيق الاتفاقات الممضاة وسدّ الطريق أمام التشاركية مع الطرف النقابي وهي المرّة الأولى منذ الثورة التي لا يلتقي فيها اتحاد الشغل مع الحكومة لأكثر من سنة حيث تمّ التصديق على قانون المالية لسنة 2024 دون جلسة استماع للطرف النقابي مقابل دعوة منظمة الاعراف لجلسة وحيدة هذا الخيار أو الموقف مهما كانت خلفياته ودوافعه إلاّ أنّه يحيل مباشرة إلى عدم احترام الحكومة التونسية لمقوّمات الحوار الاجتماعي والحقّ النقابي زد على ذلك ما تعرّض له نقابيو قطاع النقل وقطاعات أخرى من استدعاءات للمثول أمام التحقيق وإحالات على القضاء بتهم هضم جانب موظف عمومي والحال أنهم شركاء بمقتضيات الحوار الاجتماعي والدستور التونسي الذي أقرّ الحقّ النقابي.

الحرّية مكسب يجب أن يتّجه نحو التعزيز بالقطع مع المعادلة التي انتهجتها الأنظمة السابقة والقائمة على مقايضة الأمن والاستقرار ومحاربة الفساد بالحقوق والحريات وهو بلا شكّ ربط لا يستقيم لأن المناخ الديمقراطي والتعدّدي والحرّ هو المناخ الوحيد القادر على صنع الاستقرار وضمان الانخراط المواطني الطوعي في محاربة الفساد والدفاع عن مكتسبات الدولة في إطار وحدة وطنية مترفّعة عن التصنيفات والولاءات وهو كذلك دليل قوي على شرعية النظام الحاكم التي يستمدّها ليس فقط من تمثيله للشعب ومن انتخبه لكن أيضا بمن يعارضه.

الكرامة استثمار

يتّخذ مفهوم الكرامة مكانة مهمّة ومحورية ضمن الشعار المركزي “شغل حرية كرامة وطنية” لتلازمه مع المفهومين السابقين من جهة وجوب اكتمال حقوق الشغل اللاّئق والحريات العامة والفردية وبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لذلك فإنّ الكرامة في حال تراجع المفهومين الأوّلين تبقى غير مكتملة وفي حاجة إلى التأصيل والتجذير ضمن منوال مجتمعي يعلي الذات الإنسانية وينأى بها عن الاصطفافات أو الولاءات للأشخاص والأنظمة أو كذلك عن دعاوي التقسيم والتصنيف، وعلى صعيد آخر ترتبط الكرامة الوطنية أيضا بتوفّر إطار ملائم للعيش الكريم يوفر للتونسيات والتونسيين النفاذ السلسل والسهل لكلّ الاحتياجات والحاجيات سواء منها المواد الاستهلاكية التي تشهد في الأشهر الأخيرة شحّا ويتطلّب الحصول عليها ساعات من الاصطفاف في الطوابير أمام المحلات والمغازات والأسواق أو أيضا في علاقة بالخدمات والمرافق العمومية التي تراجعت بشكل مقلق على غرار النقل والصحّة والتعليم وأصبح اللجوء إليها ضرورة يفرضها الوضع المالي للتونسيات والتونسيين وليس أدلّ على ذلك النزوح المتزايد للتلاميذ من القطاع العام نحو القطاع الخاص واقتراض التونسيات والتونسيين لاقتناء سيارات خاصة أو القيام بالفحوصات الطبية بالمصحات الخاصّة هذا الأمر رفع من مستويات التداين  الأسري بشكل غير مسبوق وخلّف بالتالي مشكلات اجتماعية معقّدة وارتهانا كبيرا للبنوك والصناديق الاجتماعية. 

مفهوم الكرامة مرتبط أيضا بمعالجة كلّ الفوارق الاجتماعية والجهوية من حيث مبدأ تكافؤ الفرص، حيث لم تنجح الحكومات المتعاقبة والحالية في دعم التنمية الجهوية وتكافؤ الفرص في النفاذ إلى مختلف الخدمات الاجتماعية والمرافق العمومية من تنوير وماء صالح للشراب وبنى تحتية وهو بلا شك ليس مسؤولية النظام السياسي الحالي باعتبار تراكم هذه الإشكاليات وتوزّع مسؤوليتها على الحكومات المتعاقبة طوال العشرية الماضية لكنّه في صميم مسؤولياته من جهة إقرار المنوال الاقتصادي والاجتماعي التشاركي  الفاعل والانطلاق في الإصلاحات دون إضاعة المزيد من الوقت وهو كذلك مسؤوليته في تعبئة مختلف الطاقات والموارد البشرية والمالية وتشريك كافة القوى الحية والوطنية في مشروع مجتمعي وطني ديمقراطي شامل يعكس حقيقة قدرات التونسيات والتونسيين ويجذّر كرامتهم ويدعم وحدتهم، مشروع يثمّن الاختلاف والتنوّع ويكفل حرّية الرأي والتعبير، مشروع يصارح ويستمع ويتفاعل، مشروع يعيدنا جميعا إلى مربّع المواطنة الفاعل وليس إلى مدارج الجمهور المتفرّج.

 

Skip to content