حوارات

الدكتورة نجلاء العلاّني المديرة العامة لـ”المدنية”: لا بدّ من حفظ الذاكرة النسائية من النسيان

سيماء المزوغي
صحفية

التقت “الجريدة المدنية” الدكتورة نجلاء العلاّني المديرة العامة لمركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة “الكريديف”، التي تحدّثت عن سياسات المركز لتمكين المرأة ومناهضة العنف بجميع أنواعه، كما تطرّقت إلى ثقافة الحقوق والحريات والمساواة والتنشئة الاجتماعية للأطفال والتربية لتجديد رؤية المجتمع ودفع وعيه لنبذ جميع أشكال التمييز.

وتعتبر العلاني أوّل امرأة تونسية تحصّلت على رتبة أستاذة تعليم عال في الهندسة المعمارية بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية والتعمير بجامعة قرطاج، وهي المديرة المؤسسة لوحدة البحث حول “المناهج والنماذج لتمثيل المعارف في الهندسة المعمارية” وهي أيضا باحثة زائرة في مركز البحوث في العمارة والهندسة (CRAI) بنانسي (فرنسا). وتحصّلت على دكتوراه في “العلوم المعمارية” بملاحظة مشرف جدا من جامعة نانسي بفرنسا كما تحصلت على التأهيل الجامعي في الهندسة المعمارية من جامعة قرطاج، كما أنها عضوة باللجنة التنفيذية للجائزة المتوسطية “معمار سنان” لتعزيز التميز في الهندسة المعمارية في المتوسط.

كيف ساهمت خلاصة  تكوينك المتنوّع في مختلف المجلات  التي تجلّت عبر مختلف محطاتك في الانتصار لقضايا المرأة؟

تربيت على قيم  المواطنة ومعاني الوطنية منذ طفولتي، كانت أمي معلّمة، كذلك كان أبي رجل تعليم وحامل لواء هذه المهنة النبيلة، كانا يتفانا في خدمة الوطن، ويؤمنا بتونس وبمستقبلها، كانت فترة بناء الدولة الوطنية، في السنوات الأولى للاستقلال مع الزعيم الحبيب بورقيبة..

لديهما إيمان كبير بالوطن وبدفع البلاد نحو الأفضل، وتجندا لخدمة الأجيال وخدمة تونس، كانت أمي من أولى  النساء  اللواتي دخلن مجال التعليم والعمل.. كنت أرى تفانيهما في ما يفعلانه وإيمانهما الراسخ الذي لا يتزعزع بالوطن..

كذلك المربيات والمربيون الذين درسونا قدموا لنا منذ الصغر دروسا لا تحصى في المثابرة والعمل والجدية والإيمان بأنفسنا، وغذوا فينا قيم المواطنة والمساواة.. أذكر أن مدير المدرسة التي درست فيها، يبقى بانتظارنا منذ السابعة صباحا لنقرأ، لندرس، لنثابر، لنبني ونقوّي قدراتنا، كل ذلك كان في رحابة المحبة والصدق والإيمان أنّ رواد المدرسة ورائدتها هم لبنات البناء..

أنا عشت في مدينة القيروان العريقة، القيروان بكل ما تحمل من إرث حضاري وتاريخي وروحي، القيروان كان مختبرا للحياة الفكرية والثقافية والفنية.. الفضاء الذي تربيت فيه كان فضاء يعلي القيم، فضاء متنوعا منفتحا .. كل هذا غذّى طفولتي..

منذ الصغر ألفت على رؤية كتاب شهيرات تونسيات للعلامة حسن حسني عبد الوهاب في مكتبة أمي وأبي، وعندما بحثت عنه بعد تقدّم السنوات لم أجده، وحزّ في نفسي أنّ هذا الكتاب المرجع لا يعرفه الكثيرون..

هل كان هذا دافعا من الدوافع لإعادة إصدار كتاب شهيرات تونسيات للعلامة حسن حسني عبد الوهاب؟

 نعم، كان لي دافع، عندما توليت مهام الكرديف، قلت أن هذه المؤسسة يجب أن تحافظ على هذه الذاكرة لتبقى شاهدة وحيّة، وتقدّمه للأجيال الجديدة بطريقة مبتكرة، وبالمناسبة هذا الكتاب الصوتي، هو الإصدار الأول لمركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة ، يتماشى مع المحامل الرقمية الجديدة ليكون متاحا للقارئ، وللجمهور الذي نريده أن يقرأ،

هذا الكتاب متاح على تطبيقات الهواتف الذكية ويخاطب مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، وتمّت تجزئته إلى مقاطع صوتية بحيث يتحدّث كلّ مقطع عن شخصية نسوية رائدة في مجالها، وهذا جد مهم للتعريف  بهن  وتثمين أدوارهن، ولمعرفة تاريخنا وأنّ النساء كن ومازلن أعمدة هذا الوطن، لقد لعبت  النساء أدوارا محورية في كافة المجالات على مرّ التاريخ الذي كتبه الرجال، وعندما يكتب التاريخ الرجال توضع المرأة في الهامش بشكل أو بآخر.

مثلا فاطمة الفهرية هذه المرأة العالمة التي ولدت ونشأت في القيروان وهي شخصية تاريخية خالدة في ذاكرة مدينة القيروان وتونس، ومدينة فاس في المغرب، أسست مع شقيقتها مريم الفهرية جامعة القرويين في المغرب سنة 859، التي تُعد أول جامعة في العالم، أنشأت ذلك من مال ورثته، فاختارت أن توظّفه للعلم والمعرفة،  وأنشأت إحدى أقدم المكتبات في العالم في جامعة القرويين. هذا لا يعرفونه مع الأسف في تونس، ولهذا أيضا سمينا جائزة باسمها فأسسنا جائزة “فاطمة الفهرية” للنهوض بتكوين النساء وتحقيق التوازن على مستوى تكافؤ الفرص بين الجنسين في منطقة البحر المتوسط بحكم أنّي عضوة مؤسِّسة والمديرة التنفيذية للجائزة.

بالنظر لفاطمة الفهرية مثلا وغيرها ممن بينين تاريخ تونس، نفهم أنّ هنالك تفكير يريد أن يضع المرأة في خانة معيّنة باسم الإسلام، في حين أنّ النساء فاعلات ورائدات، هذه المرأة فتحت جامعة للعلم ومصنّفة من أقدم الجامعات وأعرقهن في العالم، وارتادها أكبر العلماء من كل أرجاء المعمورة.

كيف تتجلى سياسة الكرديف في التمكين الاقتصادي للمرأة؟

عندما نتحدّث عن التمكين الاقتصادي للمرأة، نعمل في الكرديف على تمكين النساء  ودفعهن والإحاطة بهنّ لاستغلال الموارد والفرص المتاحة والبحث عن أسواق جديدة واستخدام المهارات لاستنباط مسالك مهنية وفرص عمل جديدة، كما نعمل على الرفع من نسبة النساء المساهمات في النشاط الاقتصادي، ودفعهن للانخراط من القطاع غير المهيكل إلى القطاع المهيكل واستغلال الفرص لمواجهة الصعوبات وحسن التعامل مع متطلبات مجال الاستثمار وتسيير المؤسسات…

وقد أنجز الكريديف في هذا الإطار أيضا دراسة بعنوان حرف النساء والديناميكية الاقتصادية المحلية سنة 2020، هنالك حرفيات في كامل البلاد يبتكرن مختلف منتجاتهن بخصوصيات جهاتهن، ولكل جهة خصوصياتها في تونس لا تشبه أي خصوصية جهة أخرى، حاولنا تكوين  النساء في دراسة الجدوى لمنتاجاتهن، لكي يكتسبن معرفة في كيفية تقييمه وتسويقه، وكوّنا حلقات ومجوعات تعمل مع بعض لتسويق المنتوج إلى الخارج.

بدأنا هذا في سليانة والمهدية وتحصلنا على جائزة منظمة التعاون الإسلامي لإنجازات النساء في الدول الأعضاء” في إطار فعاليات اختتام الدورة الثامنة للمؤتمر الوزاري لمنظمة التعاون الإسلامي للمرأة التي انتظمت بالقاهرة من 6 إلى 8 جويلية 2021 تحت عنوان  “الحفاظ على مكتسبات المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في ظل جائحة كوفيد_19 وما بعدها”. ومُنحت  الجائزة للكريديف عن البحث الموظف للتنمية حول “حرف النساء والديناميكية الاقتصاديّة المحليّة”، نسعى من خلال البحث تثمين المهن التي تتعاطاها النساء في الوسط الريفي،  والوقوف إلى جانبهن وتنمية قدراتهن، والابتكار في منتوجاتهن  والبحث عن أسواق أوسع وقد سجل مشروع البحث الموظف للتنمية نجاحات من خلال إتاحة عديد الفرص للحرفيات المنخرطات في البحث لتطوير وترويج منتوجاتهن..

هل سيتواصل هذا البرنامج؟

نعم، سنتوجه للولايات الأكثر فقرا لنمكّن النساء اقتصاديا أكثر، ولنرافقهن أكثر وهذا دورنا، المرأة في الوسط الريفي تقوم بدور كبير رغم مختلف التحديات التي تواجهها ومن دورنا أن نكون معها جنبا إلى جنب لدفعها نحو ما تريد.

وسنترجم في المرحلة القادمة “موسوعة النساء التونسيات، مائة امرأة وامرأة” إلى الإنجليزية، لنعرّف العالم  بالنساء التونسيات الرائدات في مجالاتهن، ولنحفظ  ذاكرتهن من الإندثار أو النسيان… موسوعة  تضم رائدات العلم والثّقافة والفنّ والنّضال والالتزام وتسلّط الضّوء على أيقونات تونس اللاّتي ظلمتهن الذاكرة ولم تحظين بحقهنّ الريادي في التأريخ، موسوعة تثري المشهد الفكري والأكاديمي،

 ونحن نتحدّث عن تأسيس وترسيخ تقليد علمي يُعلي ويبرز الأدوار الريادية للمنارات النّسائية التّونسية ممن نحتن تاريخ تونس القديم والحديث بمآثرهنّ في جميع المجالات وعلى مرور الحِقب التاريخية.

إلى جانب هذه الموسوعة نحن بصدد تجميع قاعدة بيات للنساء التونسيات في مختلف المجالات، من المهم أن نعرّف بالكفاءات النسائية ومجالات إبداعهن وتميزهن..

لا يمكن أن نتحدّث عن المساواة دون أن نتحدّث عن الثقافة والتربية، هل تعتبرين أن الكريديف يعوّل على هذه الجوانب في برامجه وسياساته؟ 

 عندما نتحدّث عن ثقافة الحقوق والحريات والمساواة لا بدّ أن نتحدّث أيضا عن التنشئة الاجتماعية للأطفال، لا بدّ أن نتحدّث عن التربية والثقافة التي تساهم في تجديد رؤية المجتمع ودفع وعيه نحو نبذ كل أشكال التمييز وإعلاء المساواة، لا بدّ أن نعمل على تغيير العقليات لمناهضة كل أشكال التمييز بمختلف مستوياته وتمظهراته،  وهنا قمنا بالعديد من الورشات مع الأطفال في المدارس قبل جائحة كورونا، لتطوير حساسية التلقي لدى الأطفال منذ حداثة سنهم، تجاه أشكال التعبير الحديثة المختلفة لترسيخ قيم المواطنة والمساواة.

لأن الثقافة مفتاح تغيير العقليات، تعكس جائزة زبيدة بشير التي انطلقت سنة 1995 وهي جائزة سنوية تقام تزامنا مع الاحتفال بــ “العيد الوطني للمرأة” في 13 أوت، وإضافة إلى تتويج أفضل الكتابات النسائية أضفنا جائزة “أفضل سيناريو للأفلام القصيرة” التي خصصت للشباب من كلا الجنسين، لاثراء المشهد الثقافي ودفع الشابات والشباب على الإبداع مع اعتبار قيم المساواة في جوهر العمل الفني.

وعندما تركيز البعد الثقافي لتبسيط الظواهر الاجتماعية وتسليط الضوء على أسبابها ومعالجتها نتحدّث عن أغنية “حي” التي أنتجها الكريديف وهو عمل فني توعوي لمهدي الصغير، تُعرض على وسائل الإعلام  المختلفة والمؤسسات التربوية، ولا بدّ أن أذكّر أن الكريديف أنتجت فيلم “بسكلات” وهو أول فيلم  أنتج منذ تأسيس الكريديف، قمنا بذلك بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان في إطار البرنامج المشترك لتحسين خدمات التعهد بالنساء والفتيات ضحايا العنف، اصدارنا “دليل استقبال النساء ضحايا العنف” بالشراكة مع الشبكة الأورومتوسطية للحقوق ومنظمة “فريدريش ايبرت”. 

عندما نتحدّث عن استقبال النساء ضحايا العنف من المهم أن نتحدّث عن التعاطي الأمني معهن، وما يطرحه من إشكاليات وهنات،  كيف تفاعلتم مع هذا؟ 

أتمنى يوما أن تكون كل النساء ناجيات من العنف لا ضحاياه، إلى اليوم مازلنا نتذكر حادثة قتل رفقة الشارني تلك الحادثة المؤلمة والموجعة،

الجريمة التي عكست فظاعة العنف الذي بلغ إلى أقصاه حدّ إزهاق روح إنسانية، لذلك لا بدّ أن نتحدّث عن ضرورة تبني الأمنيين أسلوب استقبال سلس ومطمئن لضحايا العنف، كما أنّ التنسيق الحيني والفعّال مع كافة المتدخلين في مجال التعهد بالنساء ضحايا العنف يساهم  في تسهيل ولوج النساء والفتيات ضحايا العنف للعدالة، خاصة مع الهيئات القضائية كالنيابة العمومية وقضاء الأسرة.. كما أن الفصل 39 من القانون عدد 58 لسنة لمكافحة العنف ضد المرأة، يلزم “كل من عهدت إليه حماية المرأة من العنف.. بالاستجابة الفورية لكل طلب للمساعدة أو الحماية”، بما في ذلك أعوان الضابطة العدلية..

وهنا أعدّ الكريديف “دليل استقبال النساء ضحايا العنف” موجه لأعوان قوات الأمن الداخلي، لتعميم الممارسات الأمنية الجيدة في مجال استقبال ومرافقة النساء والفتيات ضحايا العنف وتطوير آليات التعهد بهن. موجه للأمنيين بالأساس ثم إلى جميع المتدخلين في مجال مناهضة العنف ضد النساء، من هيئات قضائية ومؤسسات حكومية وغير حكومية ومنظمات المجتمع المدني من أجل حثهم على الالتزام بالمعايير الدولية والوطنية المعتمدة لاستقبال النساء والفتيات ضحايا العنف بما فيه من إعلام الضحية بجميع حقوقها بلغة بسيطة شفويا أو كتابيا، مع التحلي بأخلاقيات المهنة في التعاطي مع قضايا العنف المسلط على النساء والفتيات كعدم التدخل في الحياة الخاصة للنساء والفتيات ضحايا العنف..ولا بدّ من القطع مع الضغط الذي يمكن أن يسلط على النساء في التخلي عن الشكاوى قصد تتبع المعتدي..

ماذا عن العنف الرقمي، وقد أطلق  “الكريديف” حملة لمناهضة العنف على الإنترنت ضد المرأة، بعنوان :”كوني آمنة”؟

 قبل كل شيء لا بدّ أن نذكّر أن العنف كما يعرّفه القانون هو “كل اعتداء مادي أو معنوي أو جنسي أو اقتصادي ضد المرأة أساسه التمييز بسبب الجنس، والذي يتسبب بإيذاء أو ألم جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة، ويشمل أيضاً التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان من الحقوق والحريات، سواء في الحياة العامة أم الخاصة”. وبحسب دراسة أعدها الكريديف تتعرض أربع نساء من خمس للعنف في الفضاء الرقمي، هذه الأرقام هي صورة لارتفاع  منسوب العنف الرقمي ضد النساء في تونس الذي يزداد باطراد.

ولا أحد ينكر اليوم أنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منصّة خصبة للعنف ضد النساء والأطفال في تونس، ومصدرا للتعنيف بأشكال مختلفة،  وهنا قمنا بدراسة حول العنف ضد النساء على “فايسبوك”، بيّنت أنّ  أربع نساء من خمس تعرضن للعنف عبر هذا الفضاء الرقمي وهذا الرقم مخيف ومفزع..  كما أنّ 95 في المئة من النساء ضحايا العنف الرقمي، لا يتوجهن إلى القضاء لعدم معرفتهن بالقانون أو خوفا من نظرة المجتمع، كما أنّ القوانين الحالية لا تواكب تطور المجتمع، وتتعامل مع هذه الجرائم على أنها جرائم اتصالية لا جرائم جندرية بالأساس..

كنت قد وجهتي الدعوة إلى بعث نقابة للعاملات المنزليات تتبنى وتساهم وتدافع عن حقوقهن أكثر، خصوصا وأنه إلى حد اليوم لا يتم اعتبار المعنية العاملة كمهنة، من أين جاءت فكرة هذه الدعوة، وما هي خلفياتها؟

 كان ذلك انطلاقا من توصيات تظمّنت دراسة أجراها المركز “عاملات المنازل المسارات، المعيش والتموقع الإجتماعي” بينت نتائجها أن العاملات المنزليات يشتغلن في ظروف صعبة وقاسية من ذلك غياب التغطية الإجتماعية وعدم إحترام حقوقهن، ولا ننسى غياب الحماية من المخاطر وتعرضهن للعنف المادي والجنسي واللفظي.. وهذا غيض من فيض .. حتى أن عملهن صار متنوعا وتجاوز الأدوار التقليدية فهي تساعد على التحصيل الدراسي للأبناء، وترعى بكبار السن والمرضى، ولهذا لا بدّ من وضع إطار قانوني مهيكل ومنظم لعمل المعينات المنزليات لحماتهن.

في الختام ماذا تقولين للنساء التونسيات؟

أن تؤمن المرأة بذاتها وبنفسها وبقدراتها وتضطلع بدورها الريادي في كافة المجالات وأن تكون فاعلة متمكّنة ..

Skip to content