حوارات

منير الشرفي لـ”الجريدة المدنية” : رغم انتهاء حكم الإسلام السياسي الا أن المخاوف من التراجع عن مدنية الدولة لا تزال قائمة

مفيدة التواتي
صحفية

منذ استقلال تونس، أرست الدولة مفهوم مدنية الدولة والذي يعد ارثا توارثه المجتمع التونسي منذ قرون وتطبع به، والمقصود به هو أن الدولة تحكمها قوانين تنظم علاقة الأفراد فيما بينهم وتنظم كذلك علاقة السلطة الحاكمة بالشعب، وترسي قواعد التمتع بالحقوق والحريات وتشرف على الحياة الدينية من خلال بناء المساجد والإشراف على إدارتها وتكوين الإطار الديني.

ولا تعني مدنية الدولة التعدي وعدم احترام الشعائر الدينية وانما تعمل على تمتيع الأفراد بحقهم في ممارسة حرياتهم وقناعتهم الايديولوجية.

ارتبط هذا المفهوم بالزعيم الراحل بورقيبة الذي أرسي دعائمه وأسس له بشكله الحالي مع وجود نقائص في باب الحقوق والحريات. عرفت تونس جدلا حوله منذ 2011 بعد تولى حزب حركة النهضة ذو مرجعية دينية الحكم، فبرزت المخاوف من امكانية التراجع عن مكسب مدنية الدولة، لتعيش تونس مرحلة تجاذب سياسي عنيف وصل الي حد الاغتيالات السياسية، لتتصاعد تحركات وتتعالي أصوات أحزاب ومكونات مدنية وفئات واسعة من الشعب لتفضي في النهاية إلى فرض مبادئ من مدنية الدولة في دستور 2014.

الا أن هذه المخاوف تجددت بعد الغاء هذا الدستور وتعويضه بدستور جديد سنة 2022 من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد، لتواصل الجمعيات والمنظمات الحقوقية تحركاتها ونضالاتها من أجل الدفاع عن مكاسب مدنية الدولة وخاصة بعد ما اعتبرته حذفا للتكريس الصريح لهذا المفهوم في الدستور ولما قد يشكّل تهديدا لما ترسّخ من مبادئ المواطنة والمحافظة على الحقوق والحريات، وخاصة حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية. ومن بين هذه الجمعيات المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة والذي كان للجريدة المدنية مع رئيسه منير الشرفي الحوار التالي.

لو تقدم المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة وأهدافه وأهم القضايا التي يدافع عنها وما هو القصد من مفهوم مدنية الدولة؟ 

فكرة إنشاء جمعية بهدف رصد التجاوزات المتّصلة بالطابع المدني للدولة التونسية جاءت إثر المحاولات المتكرّرة إبان الثورة بـ”أسلمة” المجتمع والدولة معا.

وللتذكير فإن الطابع المدني للدولة التونسية سابق للإسلام. فدستور قرطاج هو أول دستور في العالم. وبرلمان قرطاج هو أول برلمان في العالم. والدستور والبرلمان هما من ركائز الدولة المدنية. ثم خطت تونس خطوات هامة نحو تعزيز الصبغة المدنية للدولة، قبل الاستقلال مثل إلغاء العبودية، وبعده مثل مجلة الأحوال الشخصية…

غير أن السلطة التي كانت قائمة بتونس أيام حكم الترويكا قامت بعديد المبادرات للرجوع في مكتسبات المدنية، وسمعنا آنذاك حمادي الجبالي “يُبشّر بقيام دولة الخلافة السادسة” وعبد الفتاح مورو الذي يدعو إلى أدلجة الأطفال وراشد الغنوشي الذي يدعو إلى خطة “التدافع” وسياسة “التمكين” في الجيش والأمن.

من هنا جاءت فكرة تأسيس جمعية للدفاع عن مدنية الدولة، دعوت إلى مساندة تأسيسها حوالي أربعين شخصية تونسية، استجاب منهم إلى النداء 24 شخصا من نساء ورجال، وكنت الخامس والعشرين من الموقعين على بيان التأسيس.

دعا المرصد في عدة مناسبات التونسيين الي التصدي لمحاولات التخلّي عن المكتسبات الحداثية، فلماذا اتخذ هذا الموقف فهل هناك مخاوف جدية تهدد كيان المجتمع؟  ومن هي الجهات التي تسعى لتقويض هذه المكتسبات؟

لا ننسى مثلا موقف حركة النهضة التي أرادت التنصيص في الدستور على أن “المرأة مُكمّلة للرجل”. وهو “رأي” بحجم جريمة في حق نصف المجتمع، بل في حق المجتمع بأكمله، بعد أن اكتسبت المرأة التونسية نصيبا هاما من حقوقها، يستوجب دعمه. كما لا ننسى محاولة الإخوان للتنصيص في الدستور على أن القوانين يجب أن تكون مطابقة للشريعة الإسلامية، في حين أن “الشريعة” ليست هي الإسلام، كما أن الدين هي علاقة عمودية بين الخالق والمخلوق، في حين أن القوانين هي وضعية يُصدرها مُمثّلو الشعب لتحديد العلاقة الأفقية بين أفراده.

هذه التهديدات، لولا التصدّي لها بحزم وبعزم لكانت كارثة على المجتمع التونسي ولتسبّبت في تأخّر بلادنا قرونا. ونذكر من بين تلك الوقفات الحاسمة اعتصام الرحيل الذي تواصل أكثر من شهر في ساحة باردو في صائفة 2013، تنديدا بالمشروع الأول للدستور الذي قدّمه مصطفى بن جعفر يوم 1 جوان 2013 على أنه أحسن دستور في العالم، والحال أنه نص بغيض مُتخلّف. ومن هناك تأسس الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي أدّى إلى مراجعة جذرية للدستور الذي صدر يوم 26 جانفي 2014. لكن المخاوف بقيت قائمة طالما أن الإسلاميين في السلطة، وهم معروفون باتّباعهم لسياسة “التقية” التي تفيد إمكانية تراجعهم عن مبادئهم ظرفيا عند وجودهم في حالة ضعف في انتظار استرجاع قوتهم.

هل يضمن الدستور الحفاظ على مبدأ مدنية الدولة واحترام قيم الجمهورية والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان وخاصة دعم الحريات الفردية والجماعية ولاسيما حرية الرأي والتعبير وحرية الضمير والمعتقد؟

دستور 2014، رغم بعض هناته، كان يضمن تلك المبادئ نتيجة للنضالات التي ذكرتها. ومن نتائج تلك النضالات التنصيص الصريح في الفصل الثاني من دستور 2014 على أن “تونس دولة مدنية”. لكن هذا المبدأ الأساسي للدولة المدنية الجمهورية الحديثة وقع مع الأسف الشديد التخلّي عنه في دستور الرئيس. بل تم تعويضه بما جاء في الفصل الخامس من دستور 2022 القائل بأن “على الدّولة أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام”، وهو هدف لم يتمكّن الإخوان من تحقيقه أيام حكمهم، وكان بمثابة الهدية إليهم بعد مغادرتهم السلطة. ومعلوم أن عبارة “مقاصد الإسلام” هي عبارة فضفاضة يتغيّر معناها من مصدر إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر. من ذلك مثلا كانت كتابات علي عبد الرازق ومحمد عبده والطاهر الحداد تصبّ في مقاصد الإسلام بشكل تقدمي حداثي، في حين أن كتابات ابن تيميّة ومن لفّ لفّه تُعتبر هي أيضا كتابات تُعنى بمقاصد الإسلام بشكل رجعي ومُتخلّف.

أما عن الحريات الفردية والجماعية فتكفّل بها الرسوم 54 الذي رسم لحرية الفكر والتعبير حدودا خانقة. وهم مرسوم زجري بامتياز. ومن نتائج هذا المرسوم محاكمات ودعوات للتحقيق العدلي بسبب إبداء فكرة أو التعبير عن رأي. كما أن من نتائجه أيضا لجوء العديد من أصحاب الفكر ومن النخبة التونسية إلى الصمت المفروض خوفا من التتبعات القضائية. وفي ذلك طبعا تأخّر كبير في مجال الحريات.

بعد انتهاء حكم الإسلام السياسي في تونس هل يرى المرصد أن خطر توجيه تونس إلى دكتاتورية دينية قد زال؟ وأن الحقوق والحريات في مأمن من أي محاولة لاستهدافها من قبل السلطة التنفيذية؟ 

كما أسلفت، يبدو لي أن التهديد بالتراجع عن الحريات وعن مبدأ مدنية الدولة، الذي يتضمّن في صلبه المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الجمهورية والاجتهادات المستنيرة، هو تهديد فعلي وحقيقي.

لا أجزم بأننا سائرون نحو الدكتاتورية الدينية، ولكنني لا أرى أي خطوة جادّة في الاتجاه المعاكس. فحزب التحرير الذي يُنادي بدولة الخلافة مثلا لم يقع منعه ولا منع أنشطته، والحال أن القانون التونسي يمنع تكوين أحزاب ذات مرجعيات دينية. أما عن الممارسات اليومية فنلاحظ النبرة الدينية في الخطب الرسمية، من ذلك مثلا قول الرئيس بأنه مسؤول أمام الله وأمام التاريخ، والحال أنه مسؤول أمام الشعب الذي انتخبه، أو بداية خطبه بالبسملة والحمدلة في حين كان بورقيبة يبدأ خطبه ب”أيها المواطنون، أيتها المواطنات”… أما الحدث الذي يُثير حقا الدهشة فهو احتفال رئيس الجمهورية بعيد الاستقلال في جامع. فهل يُمكن أن نتخيّل مثلا الرئيس الفرنسي يحتفل بذكرى 14 جويلية في كنيسة؟

يحارب المرصد الفكر الديني المتطرف وواجه هجمة شرسة وحملات تشويه لدفاعه عن مبادئ الجمهورية فكيف سيعمل على نشر مواقفه في ظل تنامي العنف الافتراضي وانتشار التكلس الفكري؟ 

من حيث الهجمات، تلقّينا منها الكثير، سواء من الأفراد أو من المؤسسات. الهجمات جاءتنا من أناس مُتخلفين يرفضون التفكير وإعمال العقل كلما تعلّق الأمر بالدين. نحن نعتبر أن الدين أمر شخصي يستوجب التقديس والخشوع ولا بدّ من فصله عن السياسة لما فيها من مداهنة وسفسطة وأنانية وأكاذيب في أحيان كثيرة. والعقل السليم يجب أن يرى في دعوتنا للفصل بين الدين والسياسة خدمة للدين ودفاعا عنه وعن نقاوته.

ومن بين ما تعرضنا إليه من هجمات خطيرة ومجانية ما جاء في بيان جمعية الأئمة الذي تضمّن تكفيرا واضحا للمرصد وأكاذيب مفضوحة. ولقد شاهدت رئيس الجمعية في حصة إذاعية ماسكا ملفّا يتضمن عديد الأوراق مُدّعيا أن بحوزته أدلّة على أننا ضد الدين. لكنه لم يقرأ منها جملة واحدة، لأنه في الواقع لم يجد جملة واحدة في بياناتنا مناهضة للدين.

وأذكّر هنا بأننا تلقينا مساندة واسعة من قبل أحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية للتنديد بهذا التكفير الخطير، كما أذكّر بأننا تقدمنا بشكاية ضد هذه الجمعية بسبب التكفير والافتراء.

وها نحن نواصل عملنا باتخاذ المواقف الثابتة والجريئة أحيانا وبالمشاركة مع جمعيات المجتمع المدني التقدمية في الدفاع عن القضايا العادلة التي تمس من مدنية الدولة سواء تعلقت بالحريات أو بالحقوق. كما أننا قمنا بإنشاء فروع في بعض الجهات ونحن بصدد تكوين فروع جديدة في جهات أخرى.

ما هي مقترحاتكم من أجل الحفاظ على أسس الدولة المدنية وعدم الخروج عن ضوابطها؟

نرى أنه من الضروري وضع مبدأ مدنية الدولة نصب أعيننا في كل القرارات التي تتخذها السلطات الثلاث وفي كل المجالات. ولعل أهمها إصلاح النظام التربوي الذي لابد أن يكون على أساس زرع الفكر المدني والعقل النقدي والنهج الحداثي في أذهان أطفالنا في مختلف المستويات التعليمية.

وبهذه المناسبة، نُجدّد مطلبنا بتشريك المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة في أي عمل يتمّ في هذا المجال، حتى نضمن للناشئة تكوينا تقدميا يُبعدنا عن مخاطر التطرف الديني والانغلاق الذهني.

Skip to content